لمن تتجه أصابع الاتهام؟
سخرت حواسي الخمسة بأجمعها حتى استعنت بالسادسة وفتشت عن أداة سابعة لتخدم تحرياتي المضنية في إثبات صحة شكوكي التي باتت تقتلني وتدمر قواي, فهذه الآفة السيئة التي تدمر الإنسان وتفني صحته أعتقد بأنها قد ألتفت حول ولدي وأوقعته في شباكها.
فما زال أنفي يتلقف الروائح ويميزها ويتتبع مصادرها, وما برحت أنامل يداي المرتجفتان تفتش عن أثر أو دليل, وباتت عيناي الساهرتين تترقبان وترصدان حتى ذبلت مقلتاها, وظلت أذناي الحائرتان تسترق السمع عسى أن تلتقط كلمة تسعفها, حتى حاسة الذوق لم تهدأ روعتها في المشاركة والبحث عن الأدلة, لكن حاستي السادسة تؤكد لي بأن شكي في محله وإن ابني الكبير هذا فعلاً يدخن السكائر ويدمر صحته فبمجرد التفكير في ذلك يؤلمني ويقتلني لكن إحساسي لا يكذب أبداً وأنا لا أملك الدليل المادي على ذلك, ووالدته تحاول بكل الطرق أن تقنعني بأنه بريء وإنها لم تشاهد أي علامة عليه, وهناك وبعد أن نفدت جميع أسلحتي وأدواتي وحواسي في الكشف قررت أن أصارحه بالحقيقة لكي أتخلص من هذا الكابوس الذي صار يخنقني ويكتم على أنفاسي ويسلب لي راحتي.
وهناك نطق فمي وخرجت الكلمات كالمياه المتدفقة من انهيار سد قديم قد تصدعت جدرانه وتآكلت بفعل الضغط المتصاعد عليه, وقلت له بغضب أعترف بالحقيقة فلقد سئمت من الشكوك التي تدور حولك, وفجأة رد عليّ بكلام صريح صحيح ليردني على أعقابي جريح القلب مكسور الخاطر ومؤنب الضمير خائر القوى مدجج باليأس وملتف بالقنوط.
لم أمر بحياتي بهذا الموقف العصيب ليت هذه الأرض تنشق لتبتلعني وتمحو أثري إلى الأبد, لقد قال وكله ثقة وثبات: لماذا تحاسبني وتمنعني من التدخين؟ ألم تكن من المدخنين؟ ألم يكن دخان سكائرك يملئ جو البيت؟ ولما أنت خائف الآن على صحتنا وما برحت أنفاسنا تستنشق هذه السموم مذ كنا صغار أنا وأخوتي وإلى يومنا هذا, فلما العجب من كوني أدخن الآن فهذا شيء بديهي؟.
نعم لقد كان كلامه صحيح عندما قال : (إنه شيء بديهي) فبالتأكيد أن تنتقل العادات والصفات السيئة من الآباء إلى الأولاد ولا يمكنهم ردعهم عنها.
لقد اكتشفت في النهاية إن الخطأ من البداية هو خطئي والمذنب في هذه القضية هو أنا وحدي فأنا لم أقتلع عن التدخين يوماً والآن جئت لأطلب من ولدي بأن لا يدخن أو آمره بالابتعاد عن ذلك.
وأيضاً من البديهي إن فاقد الشيء لا يعطيه أبداً فأنا لم أكتفِ بتدمير حياتي وصحتي بل تعديتها إلى تدمير أسرتي وأولادي والإضرار بهم, لطالما خفت من هذا اليوم وتمنيت أن لا يأتي أبداً وأرى ولدي بأم عيني يدخن أمامي وربما سأرى مستقبلاً كل أولادي يدخنون, هذا ما جنته يدي التي زرعت التبن في عقر الدار لتحصد نار متقدة ودخان متصاعد ووقودها أسرتي وأولهم ابني هذا, لقد أصبحت كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : (ولكل زارع ما زرع)