نبي الإسلام ..الرحمة المهداة
لم تطفئ قسوة الصحراء ضرام رمالها الملتهبة، ولفح هجيرها، ونار سمومها بأهلها إلا بعد أن أُرسلت السماء عليهم مدارا، ولم تنته عذابات الضعفاء من أهلها إلا بعد أن بعث الله فيهم من يستنقذهم مما هم فيه، فأرسل إليهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويمد إليهم يد الرحمة ويعفو عن كثير؛ فهو الرحمة المهداة من عند الله إلى الناس كافة ، نبياً مرسلاً هو خاتم الأنبياء وسيد الرسل، ليس هنالك من هو أفضل منه، بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
ولد يتيما فاستشعر آلام اليتم وعذاباته، وامتلأ فؤاده حباً وعطفاً، يأنس بالفقراء والمساكين، يحنو عليهم فيجالسهم، يُطعمهم مما يأكل ويُسقيهم مما يشرب، ويدعو إلى صلة الرحم وأولها برّ الوالدين. وفي الوقت الذي كانت فيه العرب تمتهن المرأة ولا تعدّها إلا سلعة تباع وتشترى، ينظر النبي العظيم (صلى الله عليه وآله) - الذي خُلقُه القرآن - إلى المرأة بكل إجلالٍ ورأفةٍ، وخصوصاً إذا كانت تلك المرأة هي الأم التي تحمل ابنها وهناً على وهن.
يُروى:( أن رجلا قال : يا رسول الله من أبِر ؟ قال : أمك . قال : ثم من ؟ قال : أمك . قال : ثم من ؟ قال : أمك . قال : ثم من ؟ قال : أباك) ، وتتسع الرحمة والتودد ليشملا الأهل والقرابة، فهو يَعدّ صلة الرحم من أفضل الأعمال. يُذكر:( أن رجلا جاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال : أخبرني ما أفضل الأعمال ؟ فقال : الإيمان بالله، قال : ثم ماذا ؟ قال : صلة الرحم قال : ثم ماذا ؟ قال : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ، ويبدو أن وعاء الرحمة يتسع فلا يضيق بما فيه، ودائرته تكبر لتغمر الجار بالعطف والرحمة في خلقه (صلى الله عليه وآله) ووصاياه للمسلمين بالجار، مسلماً أكان أم غير مسلم، يقول (صلى الله عليه وآله) : ( إن الله تبارك وتعالى أوصاني بالجار ، حتى ظننتُ أنه يرثني) ، فهو يسأل عن جاره اليهودي - الذي كان يؤذي النبي (صلى الله عليه وآله)- فيعوده حين يَمرض ويسأل عن حاله، فما كان من هذا الرجل اليهودي إلا أن يعلن إسلامه بعدما أيقن أن هذا إنما هو خلق الأنبياء والرسل، وما هي إلا ترجمة سلوكية لمبادئ الإسلام العظيم.
إنّ الإسلام في عمومه يدعو إلى تنقية السريرة، وعدم إضمار الحقد وتحاشي الدوافع العدوانية على الآخرين، وإن اختلفوا معك في الرأي والقناعات ما دام الإسلام والمسلمون منهم في أمن وأمان. ويؤكد على سلامة النية في مجمل الأعمال، فقبول الأعمال أو رفضها عند الله مرهون بإصلاح السرائر : (وروي عنه (صلى الله عليه وآله) : (إنما يبعث الناس على نيّاتهم وان نية المرء خير من عمله) .
وأما عكس ذلك من النوايا السيئة فإن العدوانية المبيتة والضغائن تكون حائلاً دون تدفق ينابيع الرحمة والرأفة بالناس، فطبيعة الإنسان قد جبلت على الخير وليس عكس ذلك، وإيغالها في الظلم تجفيف لينابيع الرحمة، ومن هنا فالرسول الأكرم دعا إلى تنقية الذات من رواسب الجاهلية بما اشتملت عليه من البغي والظلم والعدوان، وقد اتخذ سبيل الدعوة السلمية إلى دين الله رغم أن جبابرة قريش، أصرّوا على حجبها عن الناس، وتصفية من يدعو لها كما حصل لأبوي عمار بن ياسر رضوان الله عليهم وغيرهم من شهداء المسلمين الأوائل، فهو (صلى الله عليه وآله) في قتاله المشركين والكفار ومردة أهل الكتاب لم يكن ليبدأهم بقتال، ولم يكن ليقاتل إلا من اعتدى منهم تأكيداً لقوله تعالى: ( فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ۚ ) ، ولم يكن قتاله لقريش وهي ألد عداءً للإسلام وأهله إلا من منطلق الدفاع واسترداد حقوق الضعفاء ونشر الدعوة إلى الإسلام بعد أن أصرَّ جبابرتها على حجبها عن الناس. وتصفية من يؤمن بها بل وحتى محاولة اغتيال نبيها، المرسل من عند الله، فاقتضت الإرادة الإلهية القتال في سبيل الله وجهاد المشركين والكفار بعد أن نزل قوله تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ) ، ولم يكن خوضه للمعارك والغزوات بدافع الانتقام والتنكيل بالخصوم فها هو يدخل مكة فاتحاً، فيفتح فيها أقفال القلوب والأبصار بما أوتي من رحمةٍ ورأفةٍ، (نعم كانت أعمال الرسول (صلى الله عليه وآله) في مكّة تتدفّق رفقاً وإنسانية وحناناً وهو في موقف النصر، فبينما كان سعد بن عبادة وهو أحد قادة الجيش الإسلامي يقول :
اليوم يوم الملحمة * * * اليوم تسبى الحُرَمة
وهو يعني : إن هذا اليوم سوف نترك فيه أجسادكم أشلاء متقطّعة وتسبى حرمكم ونساؤكم، نرى أن الرسول (صلى الله عليه وآله) نادى علياً فقال له : خذ الراية من سعد ونادِ عكس ندائه ، فجاء علي وأخذ الراية وقال :
اليوم يوم المرحَمَة * * * اليوم تُحمى الحُرَمة
وقد أعلن الرسول (صلى الله عليه وآله) عفوه العام عن قريش) وهي التي صنعت ما صنعت به وبالمسلمين من قتلٍ وتنكيلٍ وتشريد!، فيقول لهم (صلى الله عليه وآله): (اذهبوا فأنتم الطلقاء) . ولم تكن رأفته ورحمته تقتصر على أهله وقومه بل تتجاوز ذلك لما هو أبعد منه بكثير، وها هي وصاياه للمسلمين عند خروجهم للقتال تعبر عن ذلك أفضل تعبير، فلقد (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا أراد أن يبعث سرية دعاهم فأجلسهم بين يديه ثم يقول سيروا بسم الله وفي سبيل الله، وعلى ملة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لا تعلوا، ولا تميلوا، ولا تعذروا، ولا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا صبياً، ولا امرأةً، ولا تقطعوا شجرةً إلا أن تضطروا إليها) ، (ولا تقتلوا وليداً، ولا متبتلاً في شاهق، ولا تحرقوا النخل، ولا تغرقوه بالماء، ولا تقطعوا شجرةً مثمرةً، ولا تحرقوا زرعاً) ، ولم يكن ليرضى أن يقتل أحد من المسلمين كافراً إذا ما أعلن إسلامه وتشهّد الشهادتين، فهو يسعى إلى حياة الناس ونجاتهم من النار لا إلى هلاكهم، (روي في جامع الأصول بأسانيد عن أسامة بن زيد قال : بعثنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى الحرقات ، فصبّحنا القوم فهزمناهم ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، فلما غشيناه قال : لا إله إلا الله ، فكف الأنصاري وطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبي (صلى الله عليه وآله) فقال : يا أسامة أقتلته بعد ما قال : لا إله إلا الله ؟ قلت ، إنما كان متعوذا، فقال : أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله ؟ فما زال يكررها حتى تمنّيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم) .
لم يكن ممكناً عرض ما اكتظت به كتب السير من مواقف تعبر عن المستوى الرفيع من الرحمة التي اتسع لها قلب سيد الكائنات لضيق المقام، غير أن تناول جوانب الصراع مع المشركين وأعداء الإسلام بتناول بعض مواقفه الإنسانية معهم يأتي تعبيراً عن استنكار ورفض كل مظاهر الظلم والعدوان التي يتصف بها من يدّعون الإسلام وسيرة نبيه (صلى الله عليه وآله) وهم يسيئون إليه وإلى نبيه الأكرم (صلى الله عليه وآله) باسم الإسلام بما يحملون من أفكارٍ ظلاميةً هدّامة تدعو إلى تكفير من يخالفهم الرأي، فيستبيحون دمه وعرضه وماله، وتدلُّ أعمالهم على سوء ما انطوت عليه سرائرهم(فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ) .