الطمع باب من أبواب الهلكة والذل
يعيش المرء في معترك الحياة اليومية متأثراً بجملة من الأخلاق والسلوكيات الفضيلة والرذيلة على حدٍ سواء، تتضح في ضوئها الكثير من نزعاته النفسية، وتكشف بعضاً من صفات شخصيته المتأصلة.
ولعل من أكثر تلك الخصال تأثيراً وفعاليةً في مستوى علاقة الإنسان بمحيطه يلاحظ منه انعكاسٌ سلبيٌ ما أشار إليه سابع أئمة أهل البيت(عليهم السلام) إمامنا موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) في واحدة من أرقى وصاياه ونصائحه المباركة التي وجهها للأمة عبر تلميذه الوفي هشام بن الحكم، حيث حثّ فيها على الابتعاد عن رذيلة الطمع كونه خلقاً مذموماً يعود على صاحبه بالخيبة والخسران، ويفتح عليه باباً للهلكة والذل والمهانة، إذ يقول (عليه السلام) في ذلك لهشام وهو يَعظه: (إياك والطمع، وعليك باليأس مما في أيدي الناس، وأمت الطمع من المخلوقين، فإن الطمع مفتاح للذل، واختلاس العقل، واختلاق المروات، وتدنيس العرض، والذهاب بالعلم) .
يحذر إمامنا الكاظم (عليه السلام) في مطلع وصيته المباركة هذه من مغبة الانصياع والانقياد لطمع النفس وهواها المؤدي إلى أسوأ النتائج على المستوى الفرد والمجتمع، فالطمع صفة ذميمة ووضيعة ـ إذا ما تمكنت من المرء وأصابته ـ جعلته ذليلاً يسعى وراء شهواته ورغباته دون الوقوف عند حدٍ معين، بل نجده على العكس من ذلك يزداد شراهةً وتشبثاً للحصول على المزيد من المكاسب، وتحقيق الكثير من الأهداف والغايات دون التسليم والقناعة بما قسمه الله تعالى له من الرزق بجميع أشكاله.
ومما لا شك فيه أن هذا الخلق السيئ ونتيجة لما تقدم يوقع صاحبه في الإثم والتجاوز على حقوق الآخرين، لا بل أكثر من ذلك، فقد يكون فيه تجاوز على الكثير من الحدود الشرعية، ويؤول إلى خروجه من روح الإيمان كما عبر عنه إمامنا جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) عندما سئل فيقول: (قيل للصادق (عليه السلام) ما الذي يثبت الإيمان في العبد: قال: الورع، والذي يخرجه منه الطمع)
ثم ينتقل إمامنا الكاظم (عليه السلام) في وصيته القيمة إلى حقيقة أخرى لطالما أكدت الروايات والأحاديث رجاحتها، وهي ضرورة أن ييأس العبد مما في أيدي الناس، ولا يَتكل عليهم في آي حالٍ من الأحوال، ويلجأ إلى الله تعالى ويعول في قضاء حوائجه وتحقيق مآربه كلها عليه، فهو مدبر الأمور ومسبب الأسباب.
أما المقطع التالي من وصية أمامنا الكاظم (عليه السلام) والذي يجمل فيه الآثار الوخيمة للطمع بقوله (عليه السلام):( .. فإن الطمع مفتاح للذل، واختلاس العقل، واختلاق المروات، وتدنيس العرض، والذهاب بالعلم)، ففضلا عما أشرنا إليه من وقوع المرء في الذل والمهانة لطمعه فيما لدى المخلوقين فإنه ـ أي الطمع ـ يسلب ويسرقه عقل المرء ويُرديه إلى حيث البهيمية المطلقة، ويعطل أعظم نعمة أنعم بها الباري على خلقه وهي العقل الذي به يثيب وبه يعاقب، ومن ثم يصبح همه الأول والأخير إشباع غرائز نفسه الجامحة، ويؤول حاله إلى مستوى الأنعام كما وصفه تبارك تعالى في محكم كتابه العزيز (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) ، أو كما وصف الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) حالة الطمع بملذات العيش في إحدى خطبه العظيمة، حيث يقول في جانب منها:(البهيمة المربوطة، همّها علفها) ، وحسبنا بهذين النصين المباركين واعظاً وزاجراً للحالة المأساوية التي يعيش تفاصيلها الطامع، فإذا فقد المرء عقله فَقَدَ زمام أمره على باقي الجوارح والجوانح، وأصبحت الغرائز والشهوات في موضع الصدارة والقيادة للنفس، الأمر الذي يمهد الطريق للتجرأ والتجاوز على باقي القيم والمثل الإنسانية الأخرى، ومنها أن يصطنع الطامع المروءة ويدعيها، في الوقت الذي هو أبعد ما يكون عنها، كما إنه يحاول نسج الأكاذيب في هذا الجانب ويقدمها للآخرين كحقائق. أما الأثر الخطير الآخر الذي ينتج عن الطمع فيكمن في إيقاع عرض الطامع في مستنقع الرذيلة والانحراف، وتدنيس شرفه وضياع الكثير من القيم الاجتماعية الكريمة، وأكثر من ذلك يؤدي هذا الخلق الذميم ـ كما يؤكد الإمام (عليه السلام) ـ في المقطع الأخير من حديثه إلى ذهاب علم المرء وارتمائه في أحضان الجهل وفقد ابسط المقومات العلمية والفكرية، وهو نتيجة حتمية لما يعيشه الطامع من حالة متردية يسودها التفكير بحب الدنيا والخلود لما تريده النفس من مطامع مادية.
ومما سبق نخلص إلى أنّ الطمع خلق مذموم، وصفة سيئة تعد من أخطر الأمراض التي تصيب المرء في نفسه وعقله ومعتقده؛ الأمر الذي استدعى من إمامنا الكاظم (عليه السلام) أن يحذر منه أيما تحذير، ويبين مخاطره وآثاره السلبية على حياة الأمة.