بلادي .. وإن جارت عليَّ عزيزةٌ
تتسم النفس الإنسانية بالكثير من الغرائز والميول التي يكون في إشباعها تَحققُ الحفاظ على الحياة وديمومتها ولها الكثير من السمات التي جُبلت عليها والتي يكون في وجودها أيضاً ما يضمن السلامة من الخطر، ويجنب المرء الهلاك، وقد يكون في تصاعد حدّة هذه الصفات ما لا يحمد عقباه، كما أنّ في تلاشيها تكمن العواقب الوخيمة، فمثلما أن الشجاعة التي تتجاوز حدّها الطبيعي تعني التهور الذي يؤدي بصاحبه إلى الهلاك فإن تضاؤلها وغيابها عند مواجهة الشدائد والأخطار يؤدي الى نفس المصير أحياناً.
إنّ الجُبن صفةٌ مذمومةٌ قد يدفع بصاحبه الذي يفر من مشرط الجراح إلى الهلاك بالورم الذي كان لا بد من استئصاله، والمقاتل الذي يَجبُن عند المواجهة في الميدان يمنح عدوَّه فرصاً مضاعفةً للانقضاض عليه، وقد سُئِل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بأي شيء غلبت الأقران ؟ فقال ( ما لقيت رجلا إلا أعانني على نفسه)، وبالفعل فبمجرد أن يعرف عدوّه أنّ من يبرز له هو الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) تخور قواه ولا يكون نصيبه إلا الفرار أو الموت المحقق، ولم يذكر التأريخ أن ثمَّة من سَلِمَ من سيفه (ذو الفقّار) إلا مَن فرَّ من أمامه أو كشف عن عورته لينجو بنفسه، كما فعلها عمرو بن العاص في معركة صفِّين، والخوف وإن كان أمراً طبيعياً وصفةً قد يشترك فيها الجميع إلا أن ازدياده عن حدِّه وفي المواقف التي تتطلب الشجاعة والجرأة إنما هو الجبن بعينه، ويجرنا الحديث عن الشجاعة والإقدام وعكسهما الخوف والجبن أن نُحذّر من أن ازدياد الخوف والهلع لدى الأطفال يؤدي إلى انعكاسات تؤثر سلباً عليهم نظراً للأهمية التي تشكلها مرحلة الطفولة في كونها تعتبر مرحلة بناءٍ للشخصية، فيُحذِّر علماء التربية والطب النفسي من تنامي عوامل الذعر لدى الأطفال ويُنصح بابتعادهم عن رؤية كل ما يساهم في ازدياد الخوف وتناميه في نفوسهم، وبلا شك أن مشاهدتهم لأفلام الرعب التي يروّج لها الإعلام المعادي لمجتمعاتنا المسلمة من العوامل التي تساهم في ذلك، ولا يُتأمل في من ينشأ في أجواءٍ عائليةٍ يسودها الخوف والذعر والقلق الدائم أن يكون رجلاً قويماً ومقداماً، بل عكس ذلك تماماً، فتغلب عليه الطبيعة السوداوية ويكون انهزامياً يفتقر إلى القدرة على المواجهة وغير قادر على اتخاذ القرار في المواقف الصعبة، ويتصف مجتمعنا العراقي عموماً بتحلي أبنائه بالشجاعة والإقدام كونه مجتمعاً عربياً قبلياً ينحدر في أصوله إلى القبائل العربية العريقة التي عرُف رجالها على مر التأريخ بالشجاعة والحزم والإقدام، ويحرص رجاله أن يغرسوا في نفوس أبنائهم منذ الصغر هذه الطباع والخصال الفريدة، ويضاعف من هذه الشجاعة الإيمان الصادق الذي يتحلّون به وحبهم وولاؤهم لآل بيت النبوة الأطهار (عليهم السلام) وانقيادهم لأمر المرجعية الرشيدة، والتأريخ والواقع يؤكدان ذلك، فقد هبَّ الغيارى من أبناء هذا الوطن قبل ما يزيد على المئة عام لتلبية فتوى المرجعية للجهاد ضد الاستعمار البريطاني، وقد ضربوا أروع الأمثلة في الشجاعة والتضحية دفاعاً عن الدين والوطن، وعاد هذا المشهد ليتكرر عندما خرجت الجماهير العراقية المؤمنة ملبيةً لنداء المرجعية الرشيدة المتمثلة بسماحة المرجع الديني الأعلى آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظله الوارف ) دفاعاً عن الوطن والمقدسات، وحققوا الانتصارات تلو الانتصارات على العدو الداعشي التكفيري الغاشم.
وكما أنّ لكل قاعدة شواذ، فإنّ الصراع الذي تشهده الساحة العراقية قد أفرز ما لا يليق في نزوع البعض من العراقيين للهجرة وترك وطنهم العزيز في الوقت الذي يخوض فيه أبناؤه الغيارى معارك الشرف والملاحم الجهادية مع العدوّ الداعشي بكل شجاعةٍ وافتخارٍ، ومن الواضح أن معظم أولئك المهاجرين يعانون من عقدة الخوف والقلق من الأحداث، فضلاً عن الرغبة في إشباع نزواتهم والبحث عن حياةٍ أفضلٍ، ومن الغريب أن هؤلاء قد سيطرت عليهم هذه المشاعر الواهمة وغررت بهم أحلامهم الوردية والمظاهر البرّاقة فقادتهم أمانيّهم لأن يركبوا أمواج المخاطر، ويخوضوا لُججها، وبدلاً من أن يصطادوا الحياة المرفّهة اصطادتهم حيتان البحار وابتلعتهم أفواه المنايا، فما كانوا إلا كمن فرَّ من قضاء الله وقدره إلى قضاء الله وقدره، وقد شاهدنا كيف عرضت وسائل الإعلام بعضاً من هذه النهايات المؤلمة التي لقوا فيها مصائرهم، وكيف كابد الآخرون منهم ممن نجا من الهلاك المهانة والذّل، وما خفي أعظم..، واستمع الكثير منّا لقصص الهوان والعذاب التي رواها لنا العائدون منهم..، الذين عادوا وعاد إليهم رشدهم وهم يعضّون إصبع الندم على طيشهم، وما كان من الوطن الحبيب إلا أن يعفو عنهم وعن إسرافهم على أنفسهم ويحتضنهم احتضان الأب الحنون لولده التائب من ذنبه، النادم على ما اقترف ولسان حالهم يقول : (بلادي وإن جارت عليَّ عزيزةٌ ...وأهلي وإن شحّوا عليَ كرام)، ولا تثريب على من عاد إلا أن أخوف ما نخافه على من تُسوِّل له نفسه من شبابنا في الهجرة وترك وطنهم - وهو أحوج ما يكون لعنفوانهم وطاقاتهم- أن يلاقوا المصير المجهول، ويصيبهم كما أصاب غيرهم الخسران المبين في وقتٍ لا ينفعهم فيه الندم، ولا يجدون فيه سبيلاً إلى التوبة والعودة بسلام (ولات حين مندم).
ولدينا هنا وقفة استغراب ممن يدفع بهم الخوف أو تستهويهم فكرة الهجرة عن هذا الوطن!، لماذا ينظر هؤلاء بعينٍ واحدةٍ فلا يلوح لهم إلا سوداوية الواقع وظلمته المعتمة؟ أولسنا نعيش على هذا الكوكب الذي يتغشّى وجهيه الليل والنهار والظلمة والنور؟، لم لا ينظرون إلى الجوانب المشرقة التي يتشح بها وطنهم الحبيب..عراق المقدسات؟ إن مَن اشمأزَّ أن يكون في وطنه أناسٌ سيئون ومفسدون وسرّاق..، كيف يغيب عن باله أن فيهم أكثر بكثير مَن هُم الطيبون الكُرماء والمُضحّون الشرفاء؟، ومن لا يبصر في وطنه إلا العوز والفاقة كيف لا تبصر عيناه الخير والبركة؟، أم كيف ينسى أن وطنه هذا هو وطن الحجة المنتظر(عجل الله فرجه) ومنه ستنبعث حكومة العدل الإلهي؟، إنّ من يشهد موائد الطعام التي تغصُّ بها الطرقات والأزقة إحياءً لمناسبات أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وخصوصاً ذكرى استشهاد وأربعينية الإمام الحسين (عليه السلام) ما أذهل شعوب الأرض والعالم يعرف جيداً أنّ هذا الوطن لا تفارقه البركة!، وأنَّ الشعب الذي تحطَّم على صخرة صموده جبروت داعش التكفير وتلاشت أسطورته، قادرٌ على أن يهزم كل أعدائه المتآمرين عليه في الداخل والخارج، وإنا وإياهم على موعدٍ قريبٍ إن شاء الله تعالى (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ).