معرفة الزهراء (عليها السلام) وأثرها الفعلي في هداية الناس
تأتي مسألة التعريف بالزهراء في مقدمة الأولويات التي أهتم بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وهي من أهم التوجهات وأكثرها أصالة وتجذراً في حياتهم الشريفة، إذ لم يلحظ - بشهادة الوثائق التاريخية القطعية - أن الرسول والأئمة الأطهار تخلوا في أي فترة من فتراتهم عن مسؤوليتهم في توجيه الأمة نحو هذا الهدف، والإحاطة التامّة بمقاماتها وكمالاتها للمصلحة المترتبة على ذلك، وإن استحال على الأمة معرفتها تمام المعرفة، فلا يمكن معرفتها بحال، لأنها كالاسم الأعظم والساعة المستجابة وليلة القدر، ولكن جرت سنتهم على التعريف بها ولو بالقدر الذي تسمح به إمكانات الأمة في استيعاب هذه المعرفة، وأطلقوا عليه بحق المعرفة، واعتبروه من أهم الحقوق لها على الناس، ويجب عليهم مراعاة هذا الحق لئلا ينقطعوا عنها، فمعرفتها عند أهل البيت (عليهم السلام)، هو المعيار والمقياس الإلهي لتفاضل الناس بعضهم على البعض، فقد جاء في الحديث الشريف : أفضلكم إيمانا أفضلكم معرفة، وحتى نحظى بأدب الولوج إلى مقاماتها والدخول إلى حياضها المقدس، لا بد أن نعيّ بعض ماهيتها، وندرك ونفهم القضايا التي أحاطت بها إدراكاً صحيحاً وفهماً كاملاً، اعتماداً على ضوء البراهين والاستدلالات العقلية، والحجج العملية التي أدلى بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وما طرحوه من أحاديث وروايات تخص الزهراء تثري الساحة العلمية بتراثها، لأن الكمال لا يمكن أن يلم به إلاّ كمال مثله، فعرفوا الناس بكلامها الذي هو نُورٌ يستضاء به، وبينوا أمرها الذي يهدي إلى الرشاد، ودلوا على فعلها الذي هو محض الخير، وأشادوا بعادتها المفضية إلى الإحسان، وأثنوا على سجيتها المعتادة على الكرم، وفسروا أقوالها المشتملة على العلم والحلم، وأوضحوا أنها أصل الخير وفرعه ومعدنه ومنتهاه، والهدف من وراء تعريف الناس بكمالاتها وقدراتها، هو لإعادة الروح الإيمانية لدى الكثيرين ممن نكصت عندهم القيم والمبادئ وتراجعت الأخلاق الحميدة في ساحاتهم، وانحسر الإحساس الديني لديهم، وضَعُف الارتباط الروحي بينهم وبين رموزهم، نتيحة لانغماسهم بالحياة المعاصرة المليئة بالماديات الجامدة وبالمعاصي والآثام - ظناً منهم أن المنهاج المادي بتحلله وإباحيته كفيل بحل جميع المعضلات والمشكلات البشرية - والعودة بهم مرة أخرى إلى فطرة الدين وقيمه ومفاهيمه ومعارفه وحلوله، ولرب قائل يقول ما علاقة التعريف بالزهراء (عليهم السلام) ومقاماتها ومسألة العودة بهؤلاء إلى الهداية والقيم والمبادئ والأخلاق، فمجرد التعريف بها وبمقاماتها السامية ليس كافياً في تحقيق هذا الغرض، قلنا إن لثبوت وجاهتها عند الله، وقربها منه، ومنزلتها الرفيعة عنده، وبما خصها به من مقام الرضا ( إن الله يرضا لرضاها ويغضب لغضبها)، وحباها بالنصيب الأكبر من الشفاعة والتوسط، منحها دوراً مهماً في ترسيخ عقيدة الإنسان المؤمن بها، ومانع من تشكل الحجب السوداء أمام أجهزة المعرفة عنده، وحرزاً له من الضلالة وعصمة له من فقدان حس التشخيص وصيانةً لأدوات الوعي والفهم لديه، لا سيما لو لمس ما يؤكد هذه الحقيقة، كاستجابة الله لدعاءه على يديها، أو كشف ملمة أحاطت به نتيجة التوسل بها، أو كانت عمدةً لاستغاثته، ومطلباً لقضاء حاجته التي ضاق بها ذرعا، ومن لمس من الزهراء هذه الآثار وتلك الكرامات لم يجد بداً من أن يتخذها أسوة وقدوة له ومثالاً للإقتداء، فحكم المنطق والعقل يقر لها بالرمزية وبالمرجعية، وأمر الإقتداء بها والتوسل والاستشفاع بجنابها يصبح أمراً مرغوباً ومحبوباً، يقول الإمام الصادق (عليه السلام) : (عليكم بالزهراء ، استغيثوا باسمها ونادوا مولاتكم فاطمة وحينئذ تقضى حاجتكم ، وتنالون مطلبكم)، ومن كان مرجعه ومقتداه ومثله الأعلى هي الزهراء، فلا بد أن سبيله الصلاح والهداية، ولا غرابة أن تكون هي سبيل إلى الهداية والرشاد وهي الصديقة الكبرى، والوسيلة إلى الله (وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ ) ، وهي علة وجود هذا العالم، وعلى معرفتها دارت القرون الأولى، ومن عرفها حقيقة فقد أدرك ليلة القدر، وإنها حاملة للأسرار الإلهية وما اقتضته المشيئة الربانية، ومثلما كان لمعرفتها والإقتداء بها الأثر الفعلي في هداية الناس فأن لمقامها في الشفاعة، نفس الأثر وقد بيّنته الأحاديث والروايات التي رواها أهل البيت (عليهم السلام)، وهي من الكثرة ما لا يمكن حصرها وإحصائها، من قبيل قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إن فاطمة تلتقط شيعتها ومحبّيها من النّار كما يلتقط الطير الحبّ الجيّد من الحبّ الردئ) ، وقوله : (يا فاطمة أتدرين لم سمّيت فاطمة ؟ فقال عليّ (عليه السلام) : يا رسول الله لم سمّيت ؟ قال لأنّها فطمت هي وشيعتها من النّار) ، فمقامها في الشفاعة هو الآخر باعث للإطمئنان عند الذين يدركون ولو على نحو الإجمال حقيقة هذا المقام المهم، وما له من دور كبير في بعث الأمل عند الخاطئين من الناس، والعودة بهم من ضيق اليأس والقنوط إلى سعة الرحمة والمغفرة، إذاً ترى معي أثر هذه المعرفة في عودة الذين خالفوا الفطرة، فحق الزهراء وحق معرفتها على الناس كبير إذا ما أرادوا العودة إلى سبيل الهداية والرشاد.