سقط من عيني
ابهرني بحكمته وأسلوبه وطريقة كلامه التي تأخذ بمجامع القلوب, وأعجبت بحذاقته في تطييب الخواطر, وسياسته في فك النزاع بين المتخاصمين, ومما زاد في هيبته واحترامه بين الناس هي شخصيته المتزنة وقدرته العلمية والثقافية والدينية.
فأحببته كثيراً وكنت أترقب حضوره في جميع الجلسات والمناسبات واستمتع بحديثه وكلامه عند حل المشاكل التي تحدث لأبناء عشيرتنا أو مع العشائر الأخرى واستفيد من خبرته على الرغم من صغر سنه, فأضمرت في نفسي له شيئاً, لكنني لم أجد الفرصة المناسبة للبوح فيه وأحياناً يحبس لساني الحياء والخجل عن النطق, فقررت أخيراً أن أصارحه وفقاً لما جاء في ديننا الحنيف لا كما فرضته علينا بعض الأعراف الاجتماعية الخاطئة.
وكانت الجلسة في ذلك اليوم بخصوص زوجة تريد أن تنفصل عن زوجها بسبب امتناعه عن العمل وعدم سعيه إلى إعالتها هي وأطفالها, وبدأ أحد الوجهاء بالكلام والدفاع عن تلك المرأة وانتقاد زوجها بأحاديث شريفة حيث قال: إن الرجل ليعرف بعمله وإنه لشرف عظيم له حتى إن رسولنا الكريم وأهل بيته الميامين (عليهم السلام) قد عملوا بأيديهم وحرثوا الأرض ولم يترفعوا عن ذلك, فمثلاً كان الإمام الصادق (عليه السلام) (يمسك المسحاة ويعمل في بستان له، وحبات العرق تنساب كالبلور المذاب، على الجبين المزهر فيهيب به تابع له: جعلت فداك, أعطني المسحاة أكفك, فيجيبه: (إني أحب أن يتأذى الرجل بحر الشمس في طلب المعيشة), وكان عندئذ يلبس قميصا ويفتح الماء بالمسحاة ويقول: (إني لأعمل في بعض ضياعي ولي ما يكفيني ليعلم اللّه عز وجل أني أطلب الرزق الحلال)) , والشخص الذي لا يملك عملاً يعينه يصفه الإمام (عليه السلام) بأنه ليس محترماً بين الناس: (من لم يكن فيه خصلة من ثلاث لم يعد نبيلا, من لم يكن له عقل يزينه أو جدة تعينه أو عشيرة تعضده) , وأيضاً يرفض إمامنا الصادق (عليه السلام) للمرء بأن يكون متقاعساً عن العمل فيصبح بذلك واهناً ضعيفاً بل يأمره بالتكسب كي يقدر على أعباء الحياة وأداء الزكاة وصلة الرحم والإنفاق على المحتاجين حيث قال: (ليكن طلبك للمعيشة فوق كسب المضيع, ودون طلب الحريص الراضي بدنياه, المطمئن إليها, أنزل نفسك من ذلك بمنزلة المنصف المتعفف, وترفع بنفسك عن منزلة الواهن الضعيف, وتكسب ما لابد منه للمؤمنين) .
وبدأ أحد الوجهاء من عشيرة الزوج بالدفاع عنه حيث قال: يكفي بأنه رجلٌ مؤمن نفتخر به يصوم نهاره ويتعبد في الليل وهذه من أحسن الخصال التي تزيّن المرء وتزيده بهاءً.
فرّد عليه قائلاً: أما سمعت إن العمل عبادة, فهذا صادق أهل البيت (عليهم السلام) لما أخبروه يوما عن رجل يقول: لأقعدن ولأصلين ولأعبدن اللّه قال: (هذا أحد الذين لا يستجاب لهم) , ويقول (عليه السلام) أيضاً عن القاعدين: (الداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر) .
وما زال القوم في صراع وجدال حتى أومأت إليه بأن يتحدث أو يدلي برأيه لكي يحل النزاع لكنه هذه المرة ظل ساكتاً ولم تتحرك شفتيه أبداً, و ظلت عيناه ترصدان وتبدلت ألوان وجهه وتغيّرت تعابيره وبدأ العرق يقطر من جبينه حتى اعتذر وخرج من الجلسة, فتعجبت لأمره وقلت في نفسي: لابد إنه متعب.
وفي اليوم التالي افتقدته في المجلس, فكانت فرصة سانحة لأستفسر عنه وفيما إذا كان متزوجاً أو لا, فسألت أحد أقربائه عن أحواله وعن حياته, فرّد عليّ قائلاً: إنه غير متزوج, ففرحت جداً في داخلي, وأضاف ممتعضاً: وتقدّم لخطبة كثير من النساء وجوبه بالرفض, فسألته: أ لكونه فقير الحال؟ فقال: لا ليس لهذا الأمر, بل لأنه يرفض أن يعمل أو يمتهن حرفة وكان لديه أموال قد ورثها من أبيه يقتات منها.
أحسست بأنني تلقيت صدمة شديدة, وعرفت حينها سبب سكوته في المجلس وتنصله من الحضور اليوم, فلقد كنت ناوياً أن أخطبه لابنتي لما رأيت منه من حسن الخلق والدين وقوة الشخصية, ولأصبحت ابنتي ضحية رجل عاطل عن العمل, ولكنه الآن سقط من عيني كما يقول الإمام الصادق (عليه السلام): (إني لأرى الرجل فيعجبني فأقول: أله حرفة؟ فإن قالوا (لا) سقط من عيني) .