الإمام الكاظم (عليه السلام) وسبل الاستقامة والتفاني في خدمة الآخرين
يحاول المرء جاهداً أن يستقيم في مسيرة حياته، ويتغلب على ما قد يعترضه من هفوات وعقبات تكون سبباً يحول دون الاستمرار فيما خطط وسعى إليه من منهج وطريقة توصله إلى مبتغاه الأول وهدفه الأسمى وهي نيل رضا الله تعالى، وختم مسيرة حياته بالعاقبة الحسنة.
من هنا يمكننا أن نفهم سر اهتمام إمامنا الكاظم (عليه السلام) بمبدأ الاستقامة وعدم الميل عن جادة الحق، والحث على التمسك بنهج الصواب كونه السبيل الأنجع للوصول إلى ما اشرنا إليه، حيث صبّ جلّ جهده في تربية شيعته ومواليه على ضرورة التمسك به, وكان يؤدبهم ويوجِّههم بشتى الطرق والوسائل لكي يُدرجوا في مصاف الصالحين, حتى إنه استخدم في بعض الأحيان ما حباه الله تعالى في ذلك.
لقد تجلت هذه الحقيقة الساطعة في مسيرته ووصاياه وتوجيهاته القيمة لمواليه وأصحابه، حيث كان يحثهم دوماً على التواضع وعدم التفاضل والتمايز فيما بينهم, وإذا أصاب أحد منهم منصباً أو جاهاً أو مالاً أو علماً فعليه أن يسخّره في خدمة الآخرين لا أن يتعالى عليهم, لئلا يكون الذي أصابه وبالاً عليه, ولعل خير شاهد على ذلك ما حدث لأحد مواليه وهو علي بن يقطين الذي كان يعمل وزيراً للسلطة العباسية الغاشمة آنذاك، حيث علّمه كيف يُسخّر منصبه لخدمة الناس والشيعة الموالين لأهل البيت (عليه السلام)، وكيف أنه (عليه السلام) أدّبه لكي لا يتكبّر على أحد منهم.
فقد ورد عن محمد بن علي الصوفي قال: (استأذن إبراهيم الجمّال على أبي الحسن علي بن يقطين الوزير فحجبه، فحج علي بن يقطين في تلك السَّنة فاستأذن بالمدينة على مولانا موسى بن جعفر(عليه السلام) فحجبه، فرآه ثاني يومه فقال علي بن يقطين: سيدي ما ذنبي؟ فقال: حجبتك لأنك حجبت أخاك إبراهيم الجمال، وقد أبى الله أن يشكر سعيك أو يغفر لك حجب إبراهيم الجمّال، فقلت: يا سيدي ومولاي من لي بإبراهيم الجمّال في هذا الوقت وأنا بالمدينة وهو بالكوفة؟ فقال: إذا كان الليل فامض إلى البقيع وحدك من غير أن يعلم بك أحد من أصحابك وغلمانك واركب نجيباً هناك مسرجاً، قال: فوافى البقيع وركب النجيب ولم يلبث أن أناخه على باب إبراهيم الجمّال بالكوفة، فقرع الباب وقال : أنا علي بن يقطين.
فقال إبراهيم الجمّال من داخل الدار: وما يعمل علي بن يقطين الوزير ببابي ؟! فقال علي بن يقطين: يا هذا إن أمري عظيم، وآلا عليه أن يأذن له، فلما دخل قال: يا إبراهيم إن المولى (عليه السلام) أبى أن يقبلني أو تغفر لي، فقال: يغفر الله لك فآلى علي بن يقطين على إبراهيم الجمّال أن يطأ خدَّه فامتنع إبراهيم من ذلك، فآلى عليه ثانياً ففعل، فلم يزل إبراهيم يطأ خده، وعلي بن يقطين يقول: اللّهم اشهد، ثم انصرف وركب النجيب وأناخه من ليلته بباب المولى موسى بن جعفر(عليه السلام) بالمدينة، فأذن له ودخل عليه فقبله) .
من هنا نستشفّ ضرورة مراقبة الإنسان لأعماله ولأفعاله وسلوكياته, وأن لا يستهين بالصغار من الذنوب, ففي وصيّة للإمام الكاظم(عليه السلام) لهشام عن المسيح: (وإنّ صغار الذنوب ومحقّراتها من مكائد إبليس يحقّرها لكم ويصغّرها في أعينكم فتجمع وتكثر فتحيط بكم) .
والرسالة العظيمة التي يريد إمامنا (عليه السلام) أن يوصلها إلينا ومفادها أن الله سبحانه لا يرضى للمؤمن أن لا يتكبر أو يتعالى على إخوانه من المسلمين مهما كانت مكانته بينهم فلا فرق بين الناس فكلّهم عند الله تعالى سواء, أما الرسالة الأخرى التي رأى إمامنا (عليه السلام) إيصالها لأهل المناصب وما يتوجب أن يعرفوه ويضعوه نصب أعينهم؛ فهي المسؤولية الكبيرة التي تقع على عاتقهم وضرورة امتلاكهم الأهلية لذلك, منها أن يتفانوا في أداء مهامهم وفي مقدمتها خدمة الناس، من خلال التودد إليهم والتواضع لهم وحلّ مشاكلهم ورفع الحيف عنهم, وليس كما يفعل بعض أصحاب المناصب اليوم حيث يوظفون مناصبهم وامتيازاتهم لجمع المال أو تسخير الجاه في الأمور الشخصية أو التعدي على حقوق الآخرين والتسلّط عليهم, وتقديم المصالح الشخصية على مصالح الناس, وعليهم أن يتنبهوا إن ما أصابوه من جاه أو منصب قد وضعهم أمام اختبار وابتلاء عظيمين، وعليهم اجتيازه بنجاح لأنهم مسئولون أمام الله سبحانه أولاً وأمام إمام زمانهم وأمام الناس جميعاً يوم الحساب.