خير العبادة التفكّـر
استفاضت مصادرنا الإسلامية وأقصد بها الثقلين كتاب الله وعترة النبي الطاهرة بمدح الفكر والتفكر والتأمل والتدبر في مختلف المجالات ونواحي الحياة, فهو ضروري قبل البدء بالحديث والكلام, وقبل الشروع في أي عمل, وقبل اتخاذ القرارات سواء فيها المصيرية وغيرها, وغير ذلك من الأمور, من هنا كان له أهمية كبيرة وموقع خاص بين بقية المفردات الأخلاقية والسلوكية, فالتفكر في كيفية الدخول إلى موضوع أو خطاب أو عمل مهم في عواقبه وحسناته وسيئاته وفي فشله أو نجاحه وأسبابه وغير ذلك مما يزيد الإنسان بصيرة ويكون على علم بما يريد الإقدام عليه, وعلى هذا فستصبح نسبة النجاح والفلاح فيه أكبر من نسبة الفشل, ففي الحديث عن أبي محمد الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)): ليست العبادة كثرة الصيام والصلاة, وإنما العبادة كثرة التفكّر في أمر الله) , وأيضا عن الإمام علي(عليه السلام)):عليكم بالفكر فإنه حياة البصير) , والمراد بالجزء الثاني من الرواية الأولى(كثرة التفكّر في أمر الله), هو التفكر العام والذي يشمل جميع صنعه ومخلوقاته على كثرتها وتنوعها وجوانب الخليقة المختلفة, فنستدل من آثاره الكثيرة إلى معرفة عظمته وحوله وقوته, وكذلك دقّته في الخلق والصنع وحكمته في كل واحدة منها فهو تعالى قد وضع كلّ شيء في محلّه المناسب له, قال تعالى): تِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) , وإلى هذا أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: (لا عبادة كالتفكر في صنعة الله عزّ وجل) , فالتوجّه إلى عظمة الباري وقدرته وحكمته ودقائق صنعه مدعاة إلى تعظيمه والإذعان به والاعتراف بوحدانيته والانقياد إلى طاعته وعبادته وتقديسه على أتم وجه وأفضله, وإذا أحسّ الإنسان وأدرك حقارته وصغره بالنسبة إلى سائر مخلوقات الله ونظام الكون بمنظوماته الشمسية المتعددة كان منشأ ومنطلقا للاعتراف بعظمة الباري تعالى وعبادته واللجوء إليه, لذا كان التفكر من دواعي العبادة وأهم أسبابها ومقدمة لها أيضا و كان التفكر أهمّ منها وأسبق درجة ورتبة, وقد ورد في التاريخ كثير من الأمثلة على ذلك, منها الربيع بن خثيم الذي كان من عبّاد عصره وكان معروفا بكثرة الصلاة, ويُعَّد أيضا من الزهّاد الثمانية, وعلى ما يبدو فلم يكن الربيع ممن يستعمل الفكر في الأحداث التي كان يمرّ بها عصره وهو في زمان خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام), وما حدثت فيه من خلافات وصراعات وحروب, وكان مقتصرا على العبادة والصلاة فحسب, لا يجول بفكره فيما حوله, فوصل به الأمر إلى الاعتراض على الإمام والشك في مواقفه الحكيمة, فقال: (يا أمير المؤمنين إنا شككنا في هذا القتال على معرفتنا بفضلك ولا غنى بنا ولا بك ولا بالمسلمين عمن يقاتل العدو فولَّنا بعض هذه الثغور نكون بها عن أهله, فوجّهه علي (عليه السلام)إلى ثغر الري فكان أول لواء عقده بالكوفة لواء ربيع ابن خثيم) , ثم ذهب وترك الإمام في ساحة المعركة, وله موقف آخر مع الإمام الحسين (عليه السلام) حينما استشهد في يوم عاشوراء فقال:( اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون لقد قتلتم أصبية لو رآهم رسول الله صلى الله عليه وآله لضمّهم إليه ), ولم يُحرّك ساكنا ولم يُثبِّت اسمه مع الشهداء السعداء الذين نالوا شرف الشهادة مع الإمام الحسين (عليه السلام), ونرى في الجانب المقابل شخصيات مؤمنة كلّ الإيمان لها مواقف شجاعة وثابتة مع الحق وأهل البيت (عليهم السلام), داروا حيثما دار الحق فصدحوا بلسانه, وقوّموا بنيانه وناهضوا الباطل بما استطاعوا وبما أوتوا من قوة وقدرة, أمثال أبي ذر وميثم التمّار وحجر بن عدي وغيرهم, ممن كان التفكر رائده فيما يداهمه من حوادث وفتن طيلة مسيرة حياته, وأفضل شاهد على ما ذُكر ما قام به أنس بن الحرث الكاهلي من تضحيات كبيرة يوم عاشوراء مع الثلّة المنتخبة المدافعة عن القرآن الناطق الإمام الحسين (عليه السلام), فقد كان مفكّرا في معتقده ومتبنّياته متأمّلا في اتخاذ قراراته, وذلك لما سمعه ورواه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث قال: (سمعت رسول الله يقول: إن ابني هذاـ يعني الحسين ـ يُقتل بأرض يقال لها كربلاء, فمن شهد ذلك منه فلينصره) .