أول الطريق
من وصية الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) لهشام بن الحكم: (يا هشام إن لكل شيء دليلا ودليل العقل التفكر، ودليل التفكر الصمت )
إن للإنسان نزوعاً وتعلقاً نحو أمور لا من حيث هي نافعة بل لكونها خيراً وفضيلة, وهذا التعلق كامن في ذات الإنسان, نعم قد يميل الإنسان إلى ما هو نافع كالرغبة بالمال والثروة لكن هناك تعلقاً أشد من هذه المنافع ونزوعاً نحو معان سامية يراها هي الخير والفضيلة ويحاول أن يتلبس بها دائما ولا يرتضي بسلب هذا اللباس منه, وهي ما يطلق عليه الأخلاق, وهذه الأخلاق لا تتأتى من نفسها بل لها نبع, وهذا النبع هو العقيدة لأنها تحدد شكل سلوك الإنسان, والعقيدة أيضا لها مقدمة لابد منها ليصل لمبتغاه.
وهذه المقدمة هي الفكر الذي هو سير النفس من المبادئ إلى المقاصد, سير في المعلومات الأولية يوصل إلى معرفة وبيان المجهولات, وبهذا السير العقلي يرتقي الإنسان من النقص إلى الكمال؛ لأن ابتداءه حيرة وشك ونهايته يقين وجزم, والشك نقص في المعرفة, ووضوح الرؤية كمال.
ثم إن كل هذه المقدمات وحالات الانتقال من أمر إلى آخر يعتمد على حالة أولية وهي الصمت, فإن بينه وبين الفكر علاقة وثيقة فالصمت مقدمة أولى للفكر, لأننا نعلم أن الانتظام والاتساق لقوى النفس الفكرية تكون حال الصمت لا في حالة التكلم وهو ظاهر, فعندما يتكلم الإنسان يكون في حالة إظهار مخزونه الفكري في قضية ما لا في حالة تنظيم أفكاره, قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إذا رأيتم المؤمن صموتاً فادنوا منه فإنه يُلٌقي الحكمة ), وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (أكثر صمتك يتوفر فكرك، ويستنر قلبك ) وكفى بهذين الحديثين إثباتاً.
إذن الصمت حالة أولى لكل من أراد الوصول إلى المعاني الجليلة الشريفة فضلا عما دونها, الصمت حالة تهدي إلى بداية وبداية تهدي إلى طريق سوي وطريق سوي يوصل إلى سعادة, وهو ما يشعرنا به قول الإمام الصادق (عليه السلام) في وصيته لأبي جعفر محمد بن النعمان الأحول: يا ابن النعمان (... إن من كان قبلكم كانوا يتعلمون الصمت وأنتم تتعلمون الكلام، كان أحدهم إذا أراد التعبد يتعلم الصمت قبل ذلك بعشر سنين فإن كان يحسنه ويصبر عليه تعبد وإلا قال: ما أنا لما أروم بأهل... ).
وما أعظمها قيمة تنقل طالب المعرفة بجميع أصنافها وبالخصوص الطلبة من شبابنا المتدرجين من المستويات الأولية إلى أعلى المستويات المتخصصة في مجالات العلم.
هذه إحدى معطيات الصمت الإيجابية في حياة الإنسان وواقعه, وهناك آثار كثيرة للصمت ذكرها أئمة الدين (عليه السلام) و سنذكر آثار أخر بعد أن ندفع وهما قد يصيب القارئ, وهو أن الكلام على هذا الأساس يكون مستقبحاً مع أن القرآن الكريم ـ وهو الدستور الواضح ـ قد جعل أسمى افتخار للإنسان قدرته على البيان كما صرّح على ذلك في سورة الرحمن المباركة (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) , وفي الأدعية المأثورة عنهم (عليه السلام) أنهم طلبوا منه تعالى شأنه أن يفيض عليهم باستمرار نعمة الذكر كما ورد ذلك في دعاء كميل (واجعل لساني بذكرك لهجا) إلا أن المتمعن لا يرى ما ذُكر سليما, فإن الكلام المذموم هو الثرثرة والهذر وفضول الكلام, والصمت الممدوح هو صون اللسان عنهن, وأيضا ليس السكوت المطلق ممدوحا بل إنه في بعض الموارد حرام.
آثار أخرى للصمت:
ـ دليل على كمال العقل, قال الإمام الكاظم (عليه السلام): (دليل العاقل التفكر, ودليل التفكر الصمت ).
ـ يكسب المحبة ودليل على كل خير, قال الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام): (إِن الصمت باب من أَبواب الحكمة، إِن الصمت يكسب المحبةَ إِنه دليل على كل خير ), فإن أكثر المشاحنات تصدر عن اللسان، و السكوت يسد أبواب الشر.
-المؤمن الصامت محسن إذا سكت, عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (لا يزال الرجل المؤمن يكتب محسنا ما دام ساكتا، فإذا تكلم كتب محسنا أو مسيئا ), وقال (عليه السلام) لعبد الله بن جندب: (وعليك بالصمت، تعد حليما جاهلا كنت أو عالما، فإن الصمت زين لك عند العلماء، سترة لك عند الجهال ).
-زينة الحلم والعلم, قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (الصمت زين العلم، وعنوان الحلم ).
-ستر للجاهل, قال الإمام الصادق (عليه السلام): (الصمت كنز وافر وزين الحليم وستر الجاهل ).
-نجاة من الذنوب, جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله أوصني، فقال: احفظ لسانك, قال: يا رسول الله أوصني، قال: احفظ لسانك, قال: يا رسول الله أوصني، قال: احفظ لسانك, ويحك وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم .
-السلامة, قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (إن كان في الكلام البلاغة، ففي الصمت السلامة من العثار ), وقال (عليه السلام): (لا حافظ أحفظ من الصمت ), وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (الزم الصمت فأدنى نفعه السلامة ).
-يطرد الشيطان, قال النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) يوصي أبا ذر الغفاري: عليك بطول الصمت فإنه مطردة للشيطان، وعون لك على أمر دينك .
-راحة في الدنيا والآخرة
-رضا الله
-يعزل الهوى
-رياضة للنفس
-حلاوة للعبادة
-يزيل قساوة القلب, وجملة هذه الآثار وردت عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث يقول: (الصمت شعار المحققين ... وهو مفتاح كل راحة من الدنيا والآخرة وفيه رضا الله وتخفيف الحساب والصون الخطايا والزلل وقد جعله الله سترا على الجاهل وزين للعالم ومعه عزل الهوى ورياضة النفس وحلاوة العبادة وزوال قسوة القلب والعفاف والمروة... )
-الهيبة, قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (بكثرة الصمت تكون الهيبة ), وقال الإمام الحسن (عليه السلام): (قد أكثر من الهيبة الصامت ).
ونختم الحديث عن الصمت بوصية لأمير المؤمنين أوصى بها إمامنا الحسين(عليهما السلام) نستنير بها قال: أي بني، العافية عشرة أجزاء، تسعة منها في الصمت إلا بذكر الله، وواحد في ترك مجالسة السفهاء .