الإثراء المعرفي للأبوين ومؤثراته على الأبناء
صياغة الشخصية الإنسانية تأتي عبر اكتساب المرء الكثير من المعارف داخل المنظومة الأسرية التي ينتمي إليها، باعتبارها صاحبة الفضل الأكبر في تنشئته فكرياً ونفسياً وبدنياً، وتؤثر مباشرة على انفعالاته وآرائه في تحديد مساره المستقبلي. وقد بين الباري عز وجل فضل الأبوين في تبصير الأبناء بضرورة تلقي العلم للرقي في الحياة، ما حدَّثَ عنه عز من قائل: ( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا) ، لذا أظهرت العديد من الدراسات النفسية والاجتماعية أثر المكانة العلمية والمستوى الثقافي للأبوين في رفع مستوى كفاءة الأبناء والتأثير فيهم إيجاباً. وكما إن المجتمع عادة لا يخلو من وجود بعض الأبناء المتميزين من متقلدي المراتب العلمية رغم عدم تقلد أبويهم أو احدهما للمحصل العلمي، لكن حرص الأخيرين على رعاية الأبناء والاهتمام بهم عبر التعاون مع المؤسسات التعليمية خلال مراحلهم العلمية المختلفة، أحد أهم الأسباب لنجاحهم، ويمكن إظهار أثر الأبوين المثقفين على حياة الأبناء من جوانب مختلفة عديدة أهمها:
الوصول إليهم فكرياً
يواجه الأبوان أو أحدهما من أصحاب التحصيل المعرفي البسيط الكثير من الصعوبات مقارنة بغيرهم، فيواجهون بعض الصعوبات في رفع أداء الأبناء ومستواهم علميا، على العكس من المتنورين من ذوي الشهادات العلمية والتخصصات المعرفية الذين نراهم يتخطون العديد من المشاكل الدراسية التي يواجهها الأبناء، بل نرى الكثير منهم يستفيد من خبراته المكتسبة ويقدم الدعم المستمر لأبنائه معرفياً، ويوفر له بيئة علمية صحيحة عبر تعريفه بأساليب المذاكرة الصحيحة، وخاصة في المرحلتين الدراسيتين الابتدائية والثانوية المهمتين التي يكون فيهما الأبناء بحاجة إلى إعانة ذويهم. وقد أشار الباحث (سويل) في دراسته إلى أثر التحصيل الثقافي والعلمي للوالدين على الأبناء قائلاً: ( إن التوافق في المستوى التعليمي للوالدين بدرجة قريبة فيما بينها يعطي بيئة اجتماعية وسيكولوجية للأبناء أكثر فائدة من اختلافهما الكبير في المستويات التعليمية المختلفة) .
الثقة منفذ للإبداع العلمي
يسعى الأبوان المثقفان من ذوي الموهبة إلى تنمية الحس الإثرائي لدى الأولاد منذ الصغر ، فنراهم يعملان جاهدين على تعزيز الكثير من الإمكانيات الإبداعية وإبرازها بين طيات أفكارهم الذهنية. وقد أشارت بعض الدراسات التي بينها أحد الباحثين: (توجد علاقة طردية دالة إحصائيا بين الدرجة الكلية لمستوى البيئة الأسرية الداعمة لنمو الموهبة كما يدركها التلاميذ الموهوبون وأبعاد: ( البيئة المادية، الوعي الأسري، الإثراء المعرفي) ومستوى تعليم الوالدين، بينما لا توجد مع أبعاد: ( المناخ الاجتماعي، الأساليب التربوية، المناخ النفسي) ، وكما إن ثقة الأبناء تزداد بالأبوين إذا ما كانا على قدر من العلم، أو لهما تأثير معرفي مجتمعي واسع من خلال مناصب علمية يتقلدانها، فإذا ما كانت الأسرة مشهورة الصيت أي تقلد فيها أكثر من شخص مرتبة علمية، كأن يكون فيها أكثر من طبيب مشهور بتخصصه، تصبح حينئذ لدى الأبناء رغبة حقيقية في التأسي بذويهم وتحقيق ذاتهم نتيجة رغبة ذويهم بمتابعة المسيرة العلمية للأسرة الكبيرة. وقد أشار أحد الباحثين إلى أهمية مستوى تعليم الوالدين وارتباطه بالمستوى التعليمي للأبناء في رأيه : ( مستوى تعليم الوالدين، ومستوى الطموح التعليمي، والتحصيل عند الطلبة، يوجد ارتباط هام بين مستوى تعليم الوالدين والتحصيل الدراسي للذكور والإناث فعندما يكون مستوى تعليم الوالدين عالياً، يتقبل الأبناء تشجيع الوالدين لهم في الخطط الدراسية، والانتظام في الجامعة والتخرج منها) .
الرخاء المادي وأثره في التنشئة العلمية
تقع على عاتق الأبوين مسؤولية توفير متطلبات الدراسة للأبناء منذ مرحلة الطفولة المبكرة، أي في سن رياض الأطفال وما بعدها من المراحل. ويرتبط الرخاء الأسري بمقدار دخل الأسرة، فإذا كان الدخل مستقراً ويفي بمتطلبات الأبناء كان يكون لأحد الأبوين أو كلاهما وظيفة أو مهنة علمية تدر عليه ربحاً وفيراً، فهنا الاحتياجات المهمة لإكمال الدراسة العلمية ستتيسر للأبناء، بالإضافة إلى الاهتمام بتطوير قابلياتهم المعرفية عبر دورات التقوية المدرسية إذا ما كانوا بحاجة إليها لرفع مستواهم الدراسي؛ على النقيض من الأسر التي يقل فيها الدخل المادي بسبب عدم امتلاك الأبوين لشهادة علمية تؤهلهم للعمل أو توفر فرصة عمل لرب الأسرة. وقد أظهرت دراسة كولمان: ( إن عدم تساوي الفرص التعليمية للأبناء في المدرسة يرجع أساساً إلى اختلاف خلفيتهم الأسرية، فقد توصلت الدراسة إلى أن دخل الأسرة، والمجتمع المحلي الذي تقيم فيه الأسرة ونوع السكن والمستوى التعليمي للوالدين واتجاههم نحو تعليم الأبناء ذو تأثير مباشر على التحصيل الدراسي لأبنائهم..) .
رأي الباحثة النفسية ميسون باقر مهدي/ ماجستير صحة نفسية / مركز المعرفة للإرشاد النفسي:
البيئة هي الطبيعة التربوية الخاصة التي ينشأ فيها الأبناء، يمثل الأبوان فيها عمادها، حيث يقدمان الدعم الفكري الحقيقي للأولاد، وهناك ثمة عوامل داخلية وأخرى خارجية عبر منفذ الصحة النفسية، والتي تؤثر على اهتمامات الأبناء معرفياً ومنها ارتباط مستوى تعليم الأبوين أو أحدهما على مستقبلهم وطموحاتهم النفسية والتي من أهمها:
•تنعم معظم الأسر المثقفة بالتوافق بين الوالدين، وتكون طبيعة العلاقة المعرفية المتقاربة بينهما سبباً في تقارب الاهتمامات ودافعاً لتنشئة أبناء ذوي خبرة ومعرفة.
•تعزز ثقافة الوالدين حجم القدرة التنموية للأبناء، وتكون خير محفز للإنجاز والتقدم والنجاح في المحيط العلمي والمجتمعي عامة، فالأبناء بحكم قضائهم وقتاً طويلاً في الأسرة، يتأثران نفسياً ومعرفياً بذويهم، إلا أن ذلك التأثير يقل بعض الشيء من الآباء أو الأمهات ذوي المستوى التعليمي المتوسط أو دونه أيضا.