وقفة مع أمير الفقهاء
اصطبغت مشارق الأرض ومغاربها بعتمة المظلومية لآل بيت النبوة (عليهم السلام), بسبب الأحقاد المتواترة للذين سَّول لهم الشيطان وزين لهم سوء عملهم حرب وقتل سليل الدوحة المحمدية القمر السادس من أقمار الأسرة العلوية المشرفة الإمام ( جعفر الصادق) (عليه السلام) فكان مصابه الجلل وفقده اليم للموالين إلى يومنا هذا .
ترك الإمام(عليه السلام) للإنسانية جمعاء بصمة علمية مشرقة، وكانت مدرسته أعظم صرح علمي في التاريخ الإسلامي، وقد شهد الإمام الصادقثناء أبيه الباقر(عليهما السلام) أمام الملا لعلمه بأهليته للإمامة من بعده، فقد حث شيعته في الرجوع إلى إليه بعد رحيله قائلاً لأصحابه :(إذا افتقدتموني فاقتدوا بهذا، فإنه الإمام والخليفة من بعدي أشار إلى أبنه جعفر (عليه السلام)) ، وروي عن أَبِي عَبْدِ اللَّه الصادق(عليه السلام) قوله: ( لَمَّا حَضَرَتْ أَبِي (عليه السلام) الْوَفَاةُ قَالَ يَا جَعْفَرُ أُوصِيكَ بِأَصْحَابِي خَيْراً قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ واللَّه لأَدَعَنَّهُمْ والرَّجُلُ مِنْهُمْ يَكُونُ فِي الْمِصْرِ فَلَا يَسْأَلُ أَحَداً)
اعد الإمام الصادق(عليه السلام) مدرسته في ظروف عصيبة، شهدت فيه الأمة احتضار الحكم الأموي وولادة الحكم العباسي الجائر، وقد كانت موضع لتطلع المسلمون فيها إلى أفق الإشراق الكوني من منظور الإسلام المحمدي .
أشاد الكثيرون بالمكانة العلمية للإمام جعفر الصادق(عليه السلام) ومنهم بطرس البستاني الذي قال: (جعفر الصادق (عليه السلام) هو بن محمد الباقر بن علي زين العابدينالذي كان من سادات أهل البيت (عليه السلام) ولقب بـ (الصادق) لصدقه، وفضله العظيم , وله مقالات في صناعة الكيمياء والزجر والفال وكان تلميذه (جابر بن حيان) الذي ألف كتاباً يشتمل على الف ورقة تتضمن (( رسائل الصادق )) وهي خمسمائة رسالة , إليه ينسب كتاب الجفر , وكان الإمام أديباً تقياَ ديناً حكيماً في سيرته) ، ساهم (عليه السلام) في إثراء المكاتب العلمية بالبحوث والنظريات القيمة التي أصبحت بمثابة قاموس يرجع إليه علماء الغرب, من الذين وقفوا مبهورين أمام غزارة تلك البحوث والنظريات.
حفظ الإمام (عليه السلام) دينه من تيارات الظلم المستبدة التي حاولت بشتى الطرق طمس الهوية الإسلامية وإخفاء معالمها الحقيقية، ضجت أروقة الحكم الأموي بتيارات مناوئه متصارعة على مقاعد السلطة وسط تزاحم العباسيين أيضا على الحكم, وقد دخل المسلمون في دوامة ذلك الصراع , وهنا برز دوره الإمام(عليه السلام) واضحا للعيان في أخراج المجتمع الإسلامي من هذا المأزق الذي اخذ يعصف بالأفكار الإسلامية.
ومن ألقابه ( الصابر,الفاضل, الطاهر , الكامل)، أسدى الإمام(عليه السلام) خدمة لدينه وأصحابه من المذهب الجعفري في محورين : أولاهما: أنه أهتم بتعليم أتباعه اهتماماً كبيراً، ولم يقتصر على العلوم القرآنية، بل أضاف إليها علوماً زمنية كـ (الرياضيات ، والفيزياء, والكيمياء,والطب ,والجغرافيا، والنجوم ،والهيئة ،والحكمة و الفلسفة)، وقد تخرّج على يديه الشريفتين نخبة من العلماء الأكفاء الذين اثروا العلم بانجازاتهم العظيمة، ولقبه (عليه السلام) بـ (الكامل) إنما يدل على إكماله بناء الثقافة الشيعية بمعالمها الواضحة, أما تنظيمه الثقافي الذي أبدعه فقد كان بحق أكاديمية للبحث العلمي الحر، ولاسيما في الأمور الفكرية و لنا وقفة مع (حرية الرأي ) التي ميزت مدرسته العريقة عن المدارس المذهبية والعلمية الأخرى، حقا أنها لم تكن مدرسة وإنما كانت أكاديمية وجامعة مستقلة بإبداعها , سبقت جميع المدارس الدينية للأمم والشعوب الغربية، ركز في منهاجها على أصول الحكمة و العرفان والتوحيد، لأنها كانت تمثل القواعد والأصول التي يستعان بها في إثبات حقيقة الله عز وجل في الكون، قضى الإمام (عليه السلام) الطاهر صاحب المقام العظيم محتسبا لله مجاهدا في نشر شريعة جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى دس له السم في 25 من شوال سنة 148 هـ، على الأيدي الآثمة من إتباع اللا منصور.
عرفه الكثيرون (عليه السلام) قدوة لعرفاء التاريخ الإسلامي من الذي ليس له نظير, ولا غَرْوَ بأن يذكر الإمام بعظيم الإجلال والاحترام والود ، فهو أحجية العلوم اللدنية التي أذهلت العلماء في بقاع الأرض قاطبة.