لزوم الحق ومجانبة الهوى
مما لاشك فيه أن لزوم الحق يستوجب الاتباع المطلق له، والسعي إليه والعمل به، وأن ترك الباطل يوجب اجتناب الهوى وعدم إتباعه (َلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)، كما أن معرفة واكتساب الوعي اللازم لهذه الحقيقة يُعد من أهم وأعظم الأسس الرصينة لبناء حياة كريمة وسعيدة يمكن أن يحياها الإنسان ويلمس ثمراتها ويستشعر آثارها.
من هنا جاء الحث الكبير والتأكيد المتزايد في النصوص القرآنية الكريمة على اتباع هذا النهج كقوله تبارك وتعالى:(فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ..) ، أما السيرة العطرة لأئمة أهل البيت(عليهم السلام) فهي الأخرى لم تخلُ من الدعوة إلى هذه النهج، فقد أكدوا في الكثير من أحاديثهم ووصاياهم القيمة على ضرورة لزوم الحق والصبر على ما يصاحبه من مشقةٍ وأذى، والصبر على ما يدعو إلى اتباع الهوى والباطل، وكانوا المصداق الأمثل في هذا الجانب، ولعل من أبرز تلك الأحاديث وصية تاسع أئمة أهل البيت(عليهم السلام)الإمام محمد بن علي الجواد(عليه السلام)، حيث يقول:(اصبر على ما تكره فيما لزمك الحق، واصبر عما تحب فيما يدعوك إلى الهوى) .
أن الحديث عن الحق ـ هذا المفهوم العميق المعنى والواسع الأبعادـ هو حديث ليس بالجديد، أنما هو حديثُ كل زمانٍ رافق مسيرة الإنسانية مُذْ خلق الله البشر وأسكنهم أرضه وإلى يومنا هذا، الأمر الذي جعله يكتسب أهمية كبيرة، وحرصاً شديداً على استمرار الدعوة إليه والإرشاد نحوه، حتى أضحت هذه المهمة الشغل الشاغل لكل حاملٍ للرسالات السماوية، ومن سار على نهجهم، وهذا ما انتهجه إمامنا الجواد(عليه السلام) خلال فترة تأديته لمهامه الرسالية، عبر جملة من الوصايا والتوجيهات كالذي أوردنا آنفاً، حيث انطوى المقطع الأول من حديثه على وصية ذات مضامين في غاية الرُقي تحث على الصبر الناتج من ملازمة الحق واتباعه، وتحمل آثاره وتبعاته، وما ينتج عنه من مخاطر والآم ومعاناة، فالحث على الصبر في هذه الحالة يحمل دلالة واضحة الأهمية لاقترانه بالحق الذي يُعد من أعظم القيم والمبادئ الرسالية التي جاءت بها الرسالات السماوية كافة، والشواهد في هذا السياق كثيرة، ينبئنا التأريخ عنها في مواطن عدة، حيث شهد مواقف عصيبة كشفت طبيعة هذه المهمة وخطورتها، حيث كان الأنبياء والأوصياء والصالحين ومن تَبِعهم وسار على خطاهم في مقدمة من سلك هذا المسار، فقد صبرت هذه الثلة الرسالية على الأذى والمكروه وتحملت ما تحملت نصرةً للحق وتوطيداً لأركانه، وكانت المتصدي الأول لحمل عبء الرسالة، وهناك نماذج عظيمة يمكن ذكرها في هذا السياق يأتي في مقدمتها النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله) وأئمة أهل البيت(عليهم السلام)، حيث صبروا على الأذى في جنب الله تعالى، وتحملوا أشد المصائب والبلايا تسليماً لأمر الله تعالى ورضاً بقضائه، ويغنينا في هذا المقام ـ لدعم هذه الحقيقة ـ ما جرى على سيد الشهداء الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه(عليهم السلام)، الذي تعجبت من صبره ملائكة السماء عندما أعياه النزف، فجلس على الأرض ينوء بنفسه،(لا يرى منه إلا الصبر، والرضا عن الله تعالى في جميع قضائه، قال الشيخ التستري: وأما صبره(عليه السلام)كما ورد: فتدبر في أحواله وتصورها حين كان ملقى على الثرى في الرمضاء، مجرح الأعضاء، بسهام لا تعد ولا تحصى، مفطور الهامة، مكسور الجبهة، مرضوض الصدر.. يَسمع صوت الاستغاثات من عياله، والشماتات من أعدائه.. ومع ذلك كله لم يتأوه في ذلك الوقت، ولم تقطر من عينه قطرة دمع، وإنما قال : صبرا على قضائك، لا معبود سواك، يا غياث المستغيثين..) .
أما الثمرة الأخرى التي نجنيها من وصية إمامنا الجواد(عليه السلام) بقوله:(واصبر عما تحب فيما يدعوك إلى الهوى)، فهي ضرورة نهي النفس عن الهوى، والصبر على كل ما يدعوها لأتباعه، والميل إليه، حيث انطلق الإمام(عليه السلام)في هذا الجانب من أساس قرآني، وحقيقة ساطعة صرحت بها بعض الآيات الشريفة كقوله تبارك وتعالى:(وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)، وقوله عز وجل(وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) أي مأواه، وبعبارة أخرى فإن الإمام(عليه السلام) ومن خلال هذه الوصايا القيّمة يؤكد على ضرورة ملازمة هذا النهج، واتباعه لبلوغ أعلى مراتب الإيمان، ونيل سعادة الدارين.